لم يبقَ من مصلحة سكك الحديد لا سكك حديدية ولا حتى الصدأ. كلُ ما تبقى هو ماضٍ نتحسر عليه بغرافيتي تملأ الجدران وبحلمٍ من الصعب ان يتحقق. فحتى أحفاد البيروتيين من الأرجح انهم لن يكحّلوا أعينهم برؤية "ترام" او باص عمومي محترم يتنقلون به في مدينتهم. وفيما تؤكد مختلف الأطراف المعنية ان الحل يتطلب قرارا موحدا وتنسيقاً فيما بينها، يبقى التنفيذُ رهناً بالقرار السياسي. كذلك، تبقى اي خطوة عملية تجلب الفائدة لسكان المدينة ومحيطها في عداد الموتى. كيف لا و250 "باصا" للقطاع العام - والتي لا تحل المشكلة من جذورها أصلا- تحتاج أكثر من عقدٍ كي تُشترى! ولكن ماذا اذا طالب سكان المدينة بإعادة ترام مدينتهم الذي جاب طرقاتها في الزمن الجميل؟ انه المشهد ذاته يتكرر مرة بعد أخرى: سكانٌ ينوؤن يوميا تحت ثقل تكاليف النقل ومشاكله، وسيارات عمومية وباصات مهترئة تمشي حسب هواها وهوى الأطراف السياسية المتنازعة ومصلحة لسكك الحديد والنقل المشترك تموت موتا بطئيا مع كل صباح.
ليست بيروت سويسرا الشرق ولن تكون. فقدت المدينة حدائقها وبيوتها الأثرية على حساب الطرقات. طرقات ليست الا سيارات وباصات عمومية مهملة في ظل غيابٍ مزمن لأي تنظيم مدني. كذلك، فقدت بيروت ترامها وصارت أشبه بموقف سيارات كبير. اذ لا يحق لسكان بيروت ان يحلموا بشبكة ترام مماثلة لشبكة جنيف. فترام جنيف (مساحة 16 كلم2 وعدد سكان 195,458) الذي يوصلك من قلب العاصمة السويسرية الى الحدود الفرنسية ب25 دقيقة و 4$ فقط ليس بمتناول أحلام سكان المدينة. أما بيروت التي باتت تقارب مساحتها 20 كلم2 وعدد سكانها المليونين، فقد اختارت ان تستغني عن خدمة ترامها سنة 1964 ولم تبقِ لسكانها سوى التحسر على ما فاتهم. فهمّ اللبنانيين يقتصر على شراء أكثر السيارات كلفة وحداثة فيما همّ السياسيين هو أبعد ما يكون عن وضع النقل المشترك او شبكة الترام في اولويات قراراتهم. انه النموذج الاميركي الاستهلاكي الذي يفرضُ على الأسر تكاليف نقلٍ مرهقة ويحرمُ الدولة ايرادات جمّة. ايراداتٌ لا تعبأ بها ما دامت غارقة في وحل السياسة. ولكن من هو المسؤول عن حلّ المشكلة وما هي قصة ترام بيروت وكيف تكون البداية لإعادة إحيائه؟
خطة النقل الشاملة رهنٌ بالقرار السياسي: تتعدد الجهات المسؤولة عن النقل العام في لبنان من وزارة الأشغال العامة والنقل،الى وزارة المالية، فوزارة الداخلية والبلديات، بالاضافة الى مجلس الانماء والاعمار. تؤكد مختلف هذه الأطراف ان الحلّ يجب ان يكون جذريا وشاملا عبر خطة شاملة وتنسيق بين الجهات المعنية. هذا ما يؤكد عليه أيضا العضو في بلدية بيروت، المهندس رشيد أشقر. الا ان الحل الجذري ليس بالطبع في تعبيد طريق هنا او توسيع طريق هناك او في مد جسر هنا او وضع اشارة سير هناك. هذا وتؤكد هذه الاطراف جميعا ان تنظيم هذا القطاع هو رهنٌ بالقرار السياسي. قرارٌ يصعب اتخاذه في ظل الظروف السياسية الراهنة. هو ايضا محالٌ مع شعب يعيش دون ان يحرك ساكنا لغياب حكومة فاعلة تشكلت ام لم تتشكل. هذا ولا تزال الهيئة الناظمة للنقل والتي تترأسها وزارة الأشغال والتي تقرر تشكيلها سنة 2004 بموجب خطة النقل الشاملة لبيروت الكبرى (اي بموجب قرار مجلس الوزراء رقم 28 تاريخ 19 آب 2004) منسية في الأدراج في وزارة الأشغال، يضيف المهندس أشقر.
بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، وضعت العديد من الدراسات للنقل المشترك. ورغم "النوايا الحسنة"، لم يأخذ التنفيذ بالحسبان وسيلة نقل جماعية تحل المشكلة من جذورها. يعتبر الدكتور زياد النكت، المتخصص في النقل الجماعي في البنك الدولي، ضمن مشروع تطوير النقل الحضري في بيروت الكبرى أن الحلول السريعة لإعادة بناء الطرقات والبنى التحتية بعد الحرب اللبنانية لم تأخذ في الاعتبار وسائل النقل الجماعي الأنجع للمواطن والتي تخفف من زحمة السير. هي مشاريع ضخمة قامت بها الحكومة على عجل كرغبة منها في عرض عضلاتها، لكنها كلفت جيبة المواطن ملايين الدولارات. هذا وزحمة السير ما انفكت قاتلة. ومنذ التسعينات، والخطط ودراسات الجدوى تعدّ ويعاد اعدادها. وحتى يومنا هذا، ليس ثمة موافقة جماعية حول استراتيجية واضحة للنقل المشترك.
مصلحة السكك الحديد والنقل المشترك في البحث عن الوقت الضائع: يقول أحد محامي المصلحة السابقين فيكتور طبال "من الغرابة ان أيا من الدراسات أو الخطط التي سبق الصرف لها من الاعتمادات لم يُعمل بها وحظفت في الأدارج. اذ ثمة توجه حكومي متعمّد الى نحر مصلحة السكك الحديد التي لا زالت تملك قرابة 10 ملايين م2 من الأراضي من الناقورة وحتى الحدود السورية. أما عن التعديات على أملاك المصلحة، فيضيف المحامي طبال " تم تسجيل 550 ملف تعديات منذ الحرب الأهلية".
أنشئت مصلحة السكك الحديد والنقل المشترك لبيروت وضواحيها في سنة 1961 بموجب القانون المنشور بالمرسوم رقم 6479 وصارت هي المسؤولة عن استثمار حافلات النقل المشترك. وُسعت صلاحياتها الى كامل الأراضي اللبنانية سنة 1988 تحت اسم مصلحة السكك الحديد والنقل المشترك. في عام 1995 وبعد انتهاء حياة الترامواي وسكة الحديد، اصبحت مسؤوليتها محصورة بإدارة "الباصات". بحسب المهندس وليد واكيم، رئيس مصلحة الخط والتعميرات، ان مصلحة السكك الحديد والنقل المشترك هي مصلحة مستقلة مفوضة عبر مديرية النقل البري والبحري بتنظيم النقل المشترك بالتنسيق والتعاون مع الجهات المعنية بالنقل العام. برأي السيد واكيم فإن غياب التمويل للصيانة وشراء قطع الغيار فضلا عن الروتين الإداري هو ما أدى الى وأد المصلحة التي تقلّص عدد موظفيها من 1800 سنة 1975 الى 12 موظف حالياً. يضيف واكيم "أزيلت كل التعديات الحالية على مصلحة سكك الحديد ولا زالت ترفع الدعاوى من أجل ازالة التعديات القديمة المسجلة خلال الحرب الأهلية".
مناقصة ال 250 باص عمومي ستعاد في ال2014 رغم فشلها المسبق: تقرر في عام 2004 شراء 250 باص جديد للدولة ضمن خطة النقل الشاملة. قرارٌ ظل معلّقا بسبب غياب القرار السياسي. وفي ظل تدهور حالة "باصات الدولة" عن عمد او عن غير عمد والتي وصل عددها الى 4 سنة 2010، قامت المصلحة بإيعاز من وزارة الأشغال العامة والنقل باللجوء الى تركيبة الحل السريع. تم شراء باصات جديدة وصيانة المتبقي ليصير عدد الباصات حوالي 45 "باصا" أبيضا وأزرقا بحسب المهندس واكيم. هذه الحافلات التي لم تتمكن من منافسة القطاع الخاص راحت تسير على 7 خطوط داخل مدينة بيروت ومحيطها منذ سنة 2012. و"بسبب مشكلة التواتر البعيد فيما بينها مع قلة عددها، لم تستطع ان تكون وسيلة نقلِ معتمدة من قبل المواطن" بحسب المهندس واكيم. فجأة، وفي الفترة نفسها تقريبا، اُعيدت قصة ال 250 "باصا" من ملف الذاكرة. لكن بلدية بيروت لم تكن راضية ولا مرضية. فهي، المسؤولة عن طرقات بيروت، دخلت خفاء في خلاف مع مديرية النقل البري حول هذه مسير هذه الحافلات وصلاحيات تشغيلها. يقول المهندس أشقر "من المفترض التنسيق مع البلدية وليس اعلامها بمخططات مديرية النقل." ويضيف بأنه "لا يمكن شراء باصات تجوب طرقات بيروت بلا دراسة مسبقة وبلا معرفة لوقت مرورها وأمكنة توقفها". رغم هذا الخلاف، تحدّد موعد المناقصة في منتصف سنة 2013 ولكنها فشلت! بحسب المهندس واكيم، "قدمت 5 شركات على العرض، لكن ولا واحدة منها استوفت الشروط التقنية المطلوبة". ويؤكد بأن المناقصة ستعاد في سنة 2014. هكذا، تمرّ عشر سنوات ونحن بانتظار 250 حافلة لن تحل أزمة السير في لبنان.
خلال الحرب اللبنانية تحوّلت معظم الحافلات الى متاريس للمقاتلين بعد ان تدمّر أغلبها واحترق أرشيفها، يقول المحامي طبال. في منتصف التسعينات، سيّرت المصلحة حوالي 220 "باصا". ما لبثت هذه "الباصات" ان تهالكت على عجل بعد ان جابت طرقات بيروت وضواحيها. في هذه الأثناء، كانت شركات القطاع الخاص بحافلاتها الكبيرة او الصغيرة تزاداد عددا وانتشارا وسيطرة. حافلات تسير وتقف بعشوائية خلاقة وبحسب مبدأ البقاء للأقوى دون ان تدفع مليما للدولة لقاء استثمار أملاكها العامة. ففي بيروت لا محطات لوقوف "الباصات" اذ انها تتوقف أينما وجدت راكبا . هو نفسه لا يعرف مسبقا في اي وقت قد يصل "الباص" بل يعتمد على حدسه الشخصي! ومن منّا ليس في جعبته قصة او أكثر مع فان رقم 4 او باص الدورة مثلا؟ هذا ولا يخفى على أحد قصة مقاعد "الباصات" الممزقة والمكسّرة والمخلوعة وسرعة سائقها المرعبة حتى لتشعر أحيانا انك ستطير انت ومقعدك منفصلا عن باقي الراكبين!
ترام بيروت فكرةٌ لن تتحقق: عزيز الديك (78 سنة) ابن عين المريسة، كان يركب الترام من محطة الديك المجاورة لمنزله ليصل الى مكان عمله يوميا (في حاوز السعاتية) قرب البسطة. يقول عزيز ان تعرفة النقل في البدء كانت بقرش واحد لكنه شخصيا كان يتمسك بجانبي الترام دون أن يدفع قرشا. يضيف عزيز الديك "ان حفرت في الأرض فستجد سكة الحديد مكانها". كانت الحاجة أم سمير حرب (80 عاما) أيضا تركب الترام. تقول "كنت أفضل ان اركب درجة بريمو تجنباً لمشاكسة الرجال. أتفرج من النافذة على بيروت وبيوتها حتى أصل الى محطة النويري لأرتاد القهوة وآكل البوظة مع صديقتي". هو أيضا الشاعر محمود درويش ركب ترام بيروت وقال "جئت إلى بيروت في السادسة من عمري، ركبت الترام. نظرت من نافذته. رأيت بنايات كثيرة، فيها نوافذ كثيرة، تطل منها عيون كثيرة، الترام يسير، والبنايات تسير، والأشجار تسير. " لماذا يُحرم أبناء بيروت اليوم من هذه التجربة والذكريات؟
في عام 1909، نالت شركة بلجيكية امتيازاً بتسيير حافلات الترام في بيروت. كان لترام بيروت وضواحيها 5 خطوط ونقطة التقاء واحدة في وسط المدينة. هذا وكانت عرباته تركن ليلا في مركز الشركة في مار مخايل النهر. يقول احد محامي مصلحة السابق فكتور طبال "في عام 1961، أصبح ترام بيروت الذي كان تابعاً لشركة كهرباء لبنان تابعاً لمصلحة السكك الحديد والنقل (لبيروت وضواحيها)". في سنة 1964 بعد بداية مسيرة الباصات في بيروت، استغنت الحكومة عن خدمات الترام. قد يكون ذلك جزءا من غياب التخطيط المدني او عدم قدرة على صيانة متكررة لعرباته؛ قد تكون أيضا رغبة من الحكومة بالاعتماد على وسائل النقل الحديثة كالسيارة والأتوبيس، يضيف المحامي طبال. ورغم ان العديد من الخطط التي وضعت تضمنت اعادة إحياء ترامواي بيروت، لكن هذا الترام لم يبق حتى اليوم الا في ذاكرة البيروتيين. هو يخلّد أيضا في أغنية الفنان ابراهيم مرعشلي"رزق الله على ايامك يا ترامواي بيروت ".
"ان اعادة تشغيل الترام في بيروت بحاجة الى قرار سياسي"، يكرر أشقر، المهندس في بلدية بيروت. يضيف "حاليا ثمة تفكير ايجابي تجاه تشغيل ترام من مار مخايل الى شارع بليس؛ لكنها فكرة فقط حتى الآن." هي فكرة قد تتطلب سنوات عديدة وعديدة حتى تبصر النور. لكن الياس معلوف، رئيس جميعة Train-Train، يشير الى ان" انها ليست مسؤولية المواطن ان يدبّر وسيلة نقله بل إنها مسؤوليات وزارة الأشغال العامة والنقل المشترك". برأيه فترام بيروت هو ليس فقط نوستالجيا. بل انه حاجة ملحة يجب ان تكون ضمن مخطط شامل ومتكامل يبدأ ببناء أرصفة للمارة فطرق مخصصة للدراجات فباصات فترامواي! أما الدكتور زياد النكت فيشير الى " البدء بنشر التوعية حول أهمية وسائل النقل المشترك". من الممكن برأيه ان تتبنى خطة النقل باصات النقل الجماعي بالطرق السريعة (BRT) والتي تعتمد طريقا منفصلا عن طريق السيارات وتجمع بين فعالية سكك الحديد وبساطة الحافلة او عبر الاعتماد على الترامواي".
هي حال النقل المشترك في بيروت وهكذا ستكون. لن تأتي الحافلات في أوقات محددة. لن تتوقف في محطات مخصصة لها وعلى الأرجح لن تتحسن حالها. لن تصير بيروت بريمنغهام حيث تُمنع السيارات من السير في بعض أحيائها المخصصة للمشاة. ولن يصير شارع الحمراء كشارع الاستقلال التركي والذي يزوره 3 مليون سائح يوم الأحد سيرا على الأقدام او بواسطة الترام. فترامواي بيروت الذي قد يربط الطريق الجديدة بالضاحية الجنوبية والدورة يربط أيضا اواصر القربى بين أبناء المدينة الواحدة. لكن ما يسمح بتلاقي اللبنانيين والحد من التلوث وازدحام السير، ليس من أولويات زعماء السياسة في لبنان. والسؤال يبقى لماذا يرضى ابن بيروت بأن يكون الحلم او الذكرى خياره الأخير؟